فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ}
اعلم أن الكفار لما خوفوا شعيبًا عليه السلام بالقتل والإيذاء، حكى الله تعالى عنه ما ذكره في هذا المقام، وهو نوعان من الكلام:
النوع الأول: قوله: {ياقوم أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله واتخذتموه وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} والمعنى: أن القوم زعموا أنهم تركوا إيذاءه رعاية لجانب قومه.
فقال: أنتم تزعمون أنكم تتركون قتلي إكرامًا لرهطي، والله تعالى أولى أن يتبع أمره، فكأنه يقول: حفظتكم إياي رعاية لأمر الله تعالى أولى من حفظكم إياي رعاية لحق رهطي.
وأما قوله: {واتخذتموه وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا} فالمعنى: أنكم نسيتموه وجعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به.
قال صاحب الكشاف: والظهري منسوب إلى الظهر، والكسر من تغيرات النسب ونظيره قولهم في النسبة إلى الأمس إمسي بكسر الهمزة، وقوله: {إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} يعني أنه عالم بأحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها.
والنوع الثاني: قوله: {وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنّى عَامِلٌ} والمكانة الحالة يتمكن بها صاحبها من عمله، والمعنى اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة وكل ما في وسعكم وطاقتكم من إيصال الشرور إلي فإني أيضًا عامل بقدر ما آتاني الله تعالى من القدرة.
ثم قال: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ}
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
لقائل أن يقول لم لم يقل: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} والجواب: إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، وإما بحذف الفاء فإنه يجعله جوابًا عن سؤال مقدر والتقدير: أنه لما قال: {وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنّى عَامِلٌ} فكأنهم قالوا فماذا يكون بعد ذلك؟ فقال: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فظهر أن حذف حرف الفاء هاهنا أكمل في باب الفظاعة والتهويل.
ثم قال: {وارتقبوا إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ} والمعنى: فانتظروا العاقبة إني معكم رقيب أي منتظر، والرقيب بمعنى الراقب من رقبه كالضريب والصريم بمعنى الضارب والصارم، أو بمعنى المراقب كالعشير والنديم، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع.
{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا}
روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لم يعذب الله تعالى أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم من فوقهم وقوله: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} يحتمل أن يكون المراد منه ولما جاء وقت أمرنا ملكًا من الملائكة بتلك الصيحة، ويحتمل أن يكون المراد من الأمر العقاب، وعلى التقديرين فأخبر الله أنه نجى شعيبًا ومن معه من المؤمنين برحمة منه وفيه وجهان: الأول: أنه تعالى إنما خلصه من ذلك العذاب لمحض رحمته، تنبيهًا على أن كل ما يصل إلى العبد فليس إلا بفضل الله ورحمته.
والثاني: أن يكون المراد من الرحمة الإيمان والطاعة وسائر الأعمال الصالحة وهي أيضًا ما حصلت إلا بتوفيق الله تعالى، ثم وصف كيفية ذلك العذاب فقال: {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ} وإنما ذكر الصيحة بالألف واللام إشارة إلى المعهود السابق وهي صيحة جبريل عليه السلام: {فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ جاثمين} والجاثم الملازم لمكانه الذي لا يتحول عنه يعني أن جبريل عليه السلام لما صاح بهم تلك الصيحة زهق روح كل واحد منهم بحيث يقع في مكانه ميتًا: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} أي كأن لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين مترددين.
ثم قال تعالى: {أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} وقد تقدم تفسير هذه اللفظة وإنما قاس حالهم على ثمود لما ذكرنا أنه تعالى عذبهم مثل عذاب ثمود. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله} أي تراعون رهطي فيّ ولا تراعون الله فيّ.
{واتخذتموه وراءَكم ظهريًا} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: اطرحتم أمره وراء ظهوركم لا تلتفتون إليه ولا تعملون به، قاله السدي، ومنه قول الشاعر:
وجَدْنا بني البرصاءِ من وَلَدِ الظّهْرِ

أي ممن لا يلتفت إليهم ولا يعتد بهم.
الثاني: يعني أنكم حملتم أوزار مخالفته على ظهوركم، قاله السدي، من قولهم حملت فلانًا على ظهري اذا أظهرت عناده.
الثالث: يعني أنكم جعلتم الله ظهريًا إن احتجتم استعنتم به، وإن اكتفيتم تركتموه. كالذي يتخذه الجمَّال من جماله ظهريًا إن احتاج إليها حمل عليها وإن استغنى عنها تركها، قاله عبد الرحمن بن زيد.
الرابع: إن الله تعالى جعلهم وراء ظهورهم ظهريًا، قاله مجاهد.
{إنّ ربي بما تعملون محيط} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: حفيظ.
الثاني: خبير.
الثالث: مُجَازٍ.
قوله عز وجل: {ويا قوم اعملوا على مكانتكم}
فيه وجهان:
أحدهما: على ناحيتكم، قاله ابن عباس.
الثاني: على تمكنكم، قاله ابن عيسى.
وقوله: {اعملوا} يريد ما وعدوه من إهلاكه، قال ذلك ثقة بربة.
ثم قال جوابًا لهم فيه تهديد ووعيد: {إني عاملٌ سوف تعلمون} فيه وجهان: أحدهما: تعلمون الإجابة. الثاني: عامل في أمر من يأتي بهلاككم ليطهر الأرض منكم، وسترون حلول العذاب بكم.
{من يأتيه عذابٌ يخزيه} قال عكرمة: الغرق.
وفي: {يخزيه} وجهان:
أحدهما: يذله.
الثاني: يفضحه.
{ومن هو كاذب} فيه مضمر محذوف تقديره: ومن هو كاذب يخزى بعذاب الله، فحذفه اكتفاء بفحوى الكلام.
{وارتقبوا} أي انتظروا العذاب.
{إني معكم رقيب} يحتمل وجهين:
أحدهما: إني معكم شاهد.
الثاني: إني معكم كفيل.
وفيه وجه ثالث: إني منتظر، قاله الكلبي. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {قال يا قوم ارهطي} الآية، الظهري الشيء الذي يكون وراء الظهر، وقد يكون الشيء وراء الظهر بوجهين: في الكلام، إما بأن يطرح، كما تقول: جعلت كلامي وراء ظهرك ودبر أذنك ومنه قول الفرزدق:
تميم بن زيد لا تكونن حاجتي ** بظهر فلا يعيى عليّ جوابها

وإما بأن يسند إليه ويلجأ. ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: «وألجأت ظهري إليك» فقال جمهور المتأولين في معنى هذه الآية أنه: واتخذتم الله ظهريًا أي غير مراعى وراء الظهر على معنى الاطراح- ورجحه الطبري.
قال القاضي أبو محمد: وهو عندي على حذف مضاف ولابد، وقال بعضهم: الضمير في قوله: {واتخذتموه} عائد على أمر الله وشرعه، إذ يتضمنه الكلام.
وقالت فرقة: المعنى: أترون رهطي أعز عليكم من الله وأنتم تتخذون الله سند ظهوركم وعماد آمالكم.
قال القاضي أبو محمد: فقول الجمهور- على أن كان كفر قوم شعيب جحدًا بالله تعالى وجهلًا به. وهذا القول الثاني- على أنهم كانوا يقرون بالخالق الرازق ويعتقدون الأصنام وسائط ووسائل ونحو هذا؛ وهاتان الفرقتان موجودتان في الكفرة.
ومن اللفظة الاستظهار بالبيّنة، وقد قال ابن زيد: الظهري: الفضل، مثل الجمال يخرج معه بإبل ظهارية يعدها إن احتاج إليها وإلا فهي فضلة.
قال القاضي أبو محمد: هذا كله مما يستند إليه.
وقوله: {إن ربي بما تعملون محيط} خبر في ضمنه توعد. ومعناه محيط علمه وقدرته.
{وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ}
{على مكانتكم} معناه: على حالاتكم، وهذا كما تقول: مكانة فلان في العلم فوق مكانة فلان، يستعار من البقاع إلى المعاني.
وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن وعاصم: {مكانتكم} بالجمع، والجمهور على الإفراد.
وقوله: {اعملوا} تهديد ووعيد، وهو نحو قوله: {اعملوا ما شئتم} [فصلت: 40] وقوله: {من يأتيه} يجوز أن تكون: {من} مفعولة ب: {تعلمون} والثانية عطف عليها، قال الفراء: ويجوز أن تكون استفهامًا في موضع رفع بالابتداء.
قال القاضي أبو محمد: الأول أحسن لأنها موصولة ولا توصل في الاستفهام، ويقضي بصلتها أن المعطوفة عليها موصولة لا محالة، والصحيح أن الوقف في قوله: {إني عامل} ثم ابتداء الكلام بالوعيد، و: {من} معمولة ل: {تعلمون} وهي موصولة.
وقوله: {وارتقبوا} كذلك تهديد أيضًا.
وقوله تعالى: {ولما جاء أمرنا} الآية، الأمر هاهنا يصح أن يكون مصدر أمر ويصح أن يكون واحد الأمور. وقوله: {برحمة منا} إما أن يقصد الإخبار عن الرحمة التي لحقت شعيبًا لنبوته وحسن عمله وعمل متبعيه، وإما أن يقصد أن النتيجة لم تكن إلا بمجرد رحمة لا بعمل من أعمالهم، وأما: {الصيحة} فهي صيحة جبريل عليه السلام، وروي أنه صاح بهم، صيحة جثم لها كل واحد منهم في مكانه حيث سمعها ميتًا قد تقطعت حجب قلبه، والجثوم أصله في الطائر إذا ضرب بصدره إلى الأرض، ثم يستعمل في غيره إذا كان منه بشبه.
وقوله تعالى: {كان لم يغنوا فيها} الآية، الضمير في قوله: {فيها} عائد على الديار، و: {يغنوا} معناه: يقيمون بنعمة وخفض عيش، ومنه المغاني وهي المنازل المعمورة بالأهل، وقوله: {ألا} تنبيه للسامع، وقوله: {بعدًا} مصدر، دعا به، وهذا كما تقول: سقيًا لك ورعيًا لك وسحقًا للكافر ونحو هذا، وفارقت هذه قولهم: سلام عليك، لأن هذا كأنه إخبار عن شيء قد وجب وتحصل، وتلك إنما هي دعاء مترجى: ومعنى البعد- في قراءة من قرأ: {بعِدت} بكسر العين- الهلاك- وهي قراءة الجمهور ومنه قول خرنق بنت هفان: [الكامل]
لا يبعدنْ قومي الذين همُ ** سُمُّ العداةِ وآفة الجزرِ

ومنه قول مالك بن الريب: [الطويل]
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني ** وأين مكان البعد إلا مكانيا

وأما من قرأ: {بعدت} وهو السلمي وأبو حيوة- فهو من البعد الذي ضده القرب، ولا يدعى به إلا على مبغوض. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قَالَ يا قوم أرهطي}
{أرَهْطِيَ} رفع بالابتداء؛ والمعنى أرهطي في قلوبكم: {أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله} وأعظم وأجل وهو يملككم.
{واتخذتموه وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} أي اتخذتم ما جئتكم به من أمر الله ظهريًا؛ أي جعلتموه وراء ظهوركم، وامتنعتم من قتلي مخافة قومي؛ يقال: جعلت أمره بِظهرٍ إذا قصرت فيه، وقد مضى في البقرة، {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ} أي من الكفر والمعصية.
{مُحِيطٌ} أي عليم. وقيل: حفيظ. قوله تعالى: {وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} تهديد ووعيد؛ وقد تقدّم في الأنعام.
{مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي يهلكه.
ومن في موضع نصب، مثل: {يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} [البقرة: 220]: {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} عطف عليها.
وقيل: أي وسوف تعلمون من هو كاذب منا. وقيل في محل رفع؛ تقديره: ويخزي من هو كاذب. وقيل: تقديره ومن هو كاذب فسيعلم كذبه، ويذوق وبال أمره.
وزعم الفرّاء أنهم إنما جاؤوا بهو في {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} لأنهم لا يقولون مَن قائم؛ إنما يقولون: مَن قام، ومَن يقوم، ومَن القائم؛ فزادوا هو ليكون جملة تقوم مقام فعل ويفعل. قال النحاس: ويدل على خلاف هذا قوله:
مَنْ رَسُولِي إلى الثُّرَيّا بِأَنِّي ** ضِقْتُ ذَرْعًا بِهَجْرِهَا والكتابِ

{وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} أي انتظروا العذاب والسخطة، فإني منتظر النصر والرحمة.
قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} قيل: صاح بهم جبريل صيحة فخرجت أرواحهم من أجسادهم: {نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ} أي صيحة جبريل.
وأنث الفعل على لفظ الصيحة، وقال في قصة صالح: {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} [هود: 67] فذكّر على معنى الصياح.
قال ابن عباس: ما أهلك الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم صالح وقوم شعيب، أهلكهم الله بالصيحة؛ غير أن قوم صالح أخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم الصيحة من فوقهم.
{فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} تقدّم معناه.
وحكى الكسائيّ أن أبا عبد الرحمن السلميّ قرأ: {كَمَا بَعُدَتْ ثَمُودُ} بضم العين.
قال النحاس: المعروف في اللغة إنما يقال بعِد يَبْعَدُ بَعَدًا وبُعْدًا إذا هلك.
وقال المهدوي: من ضم العين من بعدت فهي لغة تستعمل في الخير والشر، ومصدرها البعد؛ وبعِدت تستعمل في الشر خاصة؛ يقال: بَعِدَ يَبعَد بَعَدًا؛ فالبعد على قراءة الجماعة بمعنى اللَّعنة؛ وقد يجتمع معنى اللغتين لتقاربهما في المعنى؛ فيكون مما جاء مصدره على غير لفظه لتقارب المعاني. اهـ.